الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **
لم يأمر الله تبارك وتعالى في القرآن أمرا مؤكدا بكلمة الحق إلا في موضعين : الأول في سورة آل عمران ، حول التقوى ، فقال عز من قائل : ولا يأمر الله تبارك وتعالى أمرا مؤكدا إلا إذا كان المأمور به قد بلغ رتبة سامية في معاني الشرع التي جاء بها الوحي . ولذلك كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين ، كما قال تبارك وتعالى : وقيمة الجهاد لا يختلف عليها مسلمان ، فهي الروح الساري في ضمير الأمة ، يخيف عدوها ويرهب المتربص بها والعازم على نوال خيراتها وثرواتها ، وما زال الكفار في كل زمان ومكان يتوجسون من هذه الكلمة التي لها أثر كآثار القنابل ، بل أشد ، ولعمري هي من ميراث مخصصات النبوة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) . وليس الجهاد الذي نتكلم عنه ونريد توطينه معانيه وقيمه في أعماق قلوبنا بذاك الذي يفعله بعض المتهورون من المنسوبين للصحوة ، ونحن لا ننكر غيرتهم ، ولا نتهم نياتهم ، ولكننا في الوقت نفسه لسنا مضطرين أن نحرف الحق ليلائم فكرة ارتآها ناقص في العلم أو قاصر في التجربة . إن المقصود بالجهاد الذي - مدحه الشرع - ما أحدث النكاية بالكفار لا ما ألحق بالمسلمين الاستئصال والدمار . وإذ نؤكد على معاني الجهاد في زمان اعتبره الناس تطرفا وإرهابا وتخلفا ورجعية ، فإننا في الوقت نفسه نملك الشجاعة في نقد الذات واتهام النفس ومواجهة الضمير بالخطأ والرجوع عنه ، فالحق أبلج ، والرجوع إليه فرض ، ونقاء ديننا أغلى من أن نفضل عليه كبرياء نفس أو تأخذنا عنه عزة بالإثم . وقد بدى لكل ذي بصيرة كيف أن بعضا من الجماعات التي تبنت خطا جهاديا بعيدا عن مشاورة أهل العلم وبصيرة أهل الخبرة والنصيحة قد اكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم كانوا يسيرون في الطريق الخطأ ، وأن خطأهم هذا كبدهم الكثير من الخسائر ، ومن أخطرها أن تسلك الدعوة طريقها بثقة ، وأن تتدرج في صراعها على وفق القوانين الشرعية والكونية . وقد اكتشف أولئك – فيما بعد - أنهم لم يكونوا يخدمون الدين ، بل جروا عليه وعلى أهله من الأذى والصد ما ستظل الصحوة تذكرها أبد الدهر . ونحن بحمد الله لسنا بالشانئين على أهل الإيمان – كيفما كانوا – ولا الشامتين بمبتلى – قدر ما كان بلاؤه – بل يعلم الله سريرتنا في مولاة أهل الإيمان والسنة ، وتعظيم مقامهم ، والدعاء لهم في السر والعلن ، وحب الخير لهم ، وإرادة نصرتهم والعزم عليه ، وفعله كلما سنحت الفرصة ، ولكن النصح واجب ، وإن كان ثقيلا . ولقد كان شرط الكتاب ألا أورد فيه إلا طريقة ممكنة التنفيذ سائغة العمل ، فلما تصفحت الواقع وجدت الجهاد من دوائر الخطر التي صار يخشى الحديث عنها الكثير من الدعاة ، ولعمري هذا من غربة الدين في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله . وخشيت أن يتوالى الزمان ويتطاول العمر ويدوم التساكت فينسى الناس فريضة من فرائض الله وشعيرة من شعائر الدين ، فأحببت أن أؤكد أن الجهاد بكل معانيه واجب ، باللسان وباليد وبالمال وبالقلب أيضا كما قال شيخ الإسلام بن تيمية ، وكما يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي في السنن الكبرى قال : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق ) . والظاهر من الحديث وجوب أحد الأمرين ، إذا المعنى : أن من غزا فقد برئت ذمته ، ومن لم يغز فلا أقل من أن يحدث نفسه بالغزو . هذا وللجهاد أحكام وشروط ومقتضيات لا يتسع المقام لذكرها ، ولكننا ننبه على أن كل صورة من صور خدمة الدين داخلة في معنى الجهاد بالأصالة أو بالتبع ، ويبقى أن نستنفر همة المسلمين أن يناصروا إخوانهم المستضعفين في كل مكان على وجه الأرض ، سواء باليد أو بالمال أو بالدعاء وشحذ الهمم وهو أقل القليل . كما أننا ندعو الحكومات الإسلامية أن تقوم بدورها في نصرة قضايا المسلمين في كل مكان كالشيشان والبوسنة وكوسوفا والفليبين وغيرها من البلاد التي يعاني أهلها الضيم والتشريد والتقتيل والإبادة والتعذيب . وندعو كل كاتب وصحفي وأديب وصاحب لسان أو قلم أن يسخر قلمه ولسانه في نصرة قضايا المسلمين حيثما حل أو ارتحل ، ونستثير غيرته في الصدع بكلمة الحق أينما ووقتما كان . إن ضيما يعلو ولا يشمئز له ضمير حر أو يستنفر نخوة غيور حري له أن يطأ بميسمه كل أنوف الخائرين ، وليس على الجبناء بعد النكوص من بأس أن يقال لهم كما قيل للأمير عبد الله آخر أمراء الأندلس حينما سقطت قرطبة فبكى : ابك على ملك ضيعته كما يبكي النساء .
إن شريعة الإسلام شريعة تدفع الخبث كالماء الطهور المتدفق ، يرفع الحدث ويدفع الخبث ، وهي شريعة تأبى الوهن والتَذَيُّل ، أقامها المولى تبارك وتعالى ليكون الناس جميعا أسرى في زمام قيادتها ، لا يحال غَرٌّ أن يتقحَّم أسوارها هاربا منها إلا خسر ، غائرا عليها إلا ندم . شريعة جامعة قاهرة ، تبهر العقول وتخلب الألباب ، تسيطر على نوازع النفس الشاردة ، التي لا يقوى عليها الإنسان نفسه ولكن تقوى الشريعة على كبح جماحها وترويضها . ولأجل ذلك كان لزاما على الأمة أن يكون منها من يقوم بأمر هذا الشرع علما وتعلما وتبليغا ونِذَارة ، حتى ترعوي وساوس الزيغ في النفوس عندما ترى مهابة الشرع وجلالة أحكامه مسيطرة على ميدان الإرادات النفسية . فالشرع هو الذي يقنن للنفس ما يجوز لها إتيانه وما لا يجوز ، وهو الذي يضع الحدود لما يحل ويحرم ، وهو الذي يرسم لها الإطار الذي لا يجوز أن تتجاوزه في مجال المباحات والطيبات . يقول الله تبارك وتعالى : وقال تعالى : وقال تعالى : وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي ولفظه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من رأى منكم منكرا فغيره بيده فقد برىء ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برىء ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برىء وذلك أضعف الإيمان ) . وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لـومة لائم . رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم ) فقال رجل من القوم : هذا من أشد ما أنبأتنا به ، قال : ( أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة ، وحملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك القذى عن الطريق صلاة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة ) . رواه ابن خزيمة في صحيحه وله روايات أخرى صحيحة تشهد للفظ هذا الحديث . وعن أبي عبد الله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قال : ( كلمة حق عند سلطان جائر ) رواه النسائي بإسناد صحيح . وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله ) .رواه الترمذي والحاكم وقال صحيح الإسناد . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) . رواه البخاري والترمذي . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) . رواه مسلم . الحواري هو الناصر للرجل والمختص به . وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقـول : ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه –وحلق بين أصبعيه الإبهام والتي تليها – فقلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قــال : ( نعم إذا كثر الخبث ) . رواه البخاري ومسلم . وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله يبعث عليكم عذابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ) رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وحسنه الشيخ الألباني . إن حشد هذه الأحاديث بين يدي هذه الطريقة هنا من الأهمية بمكان ، فقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدأت تتقلص في بؤرة الاهتمام الدعوي لدى شريحة متعاظمة من المشتغلين بالشأن الدعوي ، وغدت محاربة المنكرات أمرا نتحاشى الحديث عنه إما تهربا من المسئولية – وهي محيقة بنا لا محالة – وإما خوفا من تكرار المآسي التي حدثت بسبب تهور بعض الشباب في ممارسة هذا الدور الحيوي في المجتمع المسلم . وكل ذلك لا يغير نقيرا من حقيقة الأمر ، وهي أن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أساسيات العمل الدعوي ، وأن ما يصيب الدعاة من جرائه – بشرط الالتزام بالضوابط الشرعية – سنة قدرية حالّة بكل من تصدر للصدع بالحق في كل زمان ومكان ، وأن القيام بهذا الفرض الكفائي متعين على الحركات الإسلامية بالأصالة – باعتبارها هي التي تمثل الإسلام في هذا الزمان – وعلى الدعاة والعلماء وطلبة العلم بالتبع – باعتبارهم يمثلون شريحة المرجعية العلمية والعملية للمجتمع - . وما من شك أن ممارسات بعض الجماعات الإسلامية لهذه الفريضة – أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – قد أورثت إسقاطا سيئا لدى معظم شرائح المجتمع ، حيث لم يتواكب مع القيام بهذا الفرض دور إعلامي أو خطاب دعوي مكثف يشرح وجهة نظر الدعاة فيما يقومون به من إنكار للمنكرات ، مع تحرك آلة الإعلام العلمانية في تشويه صورة المحتسبين وتلطيخ سمعتهم بالتهم الباطلة والإشاعات الكاذبة والتمثيليات السخيفة ، فصارت تحركات الدعوة الإسلامية في هذا المجال عقيمة النتائج إن لم تكن قد حققت أضرارا بالغة في البناء الدعوي . ونحن لن نملأ صفحات هذا الكتاب بأحكام فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فكتابنا بصدد تفعيل الدور الحركي للمنتمين للصحوة وليس بالدرجة الأولى كتابا يشرح مفردات التنظير العلمي للمسائل الفقهية ، ومثل هذه الأحكام أحيل القارئ أن يتلقاها على وجه التفصيل والتدقيق في مباحث خاصة لشيوخ الصحوة ودعاتها مستبصرا بفتاواهم واستشارتهم ، نائيا عن الإجمال والإطلاق والتعميم في مثل هذه المباحث التي هي ألصق بالوظيفة القضائية عنها بالوظيفة الإفتائية . واهتمامنا سينصب في تناول أساليب تطبيق هذا الدور ، مع مدارسة الآليات النافعة للحصول على نتائج حاسمة من هذه الطريقة الدعوية ، مع التعرض لماما لبعض الأحكام والقواعد العامة التي يجب أن تحكم ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وبادئ ذي بدء ألفت نظر القارئ الكريم أن بين الفكرة وتطبيق الفكرة بون شاسع ومساحة تتسع لكثير من التعديلات حتى يتسنى للفكرة أن تخرج إلى حيز الخارج بأكثر عائد وأقل ضرر . والذي يتوهم أن أي فرض أو تكليف شرعي يجب أن يطبق بحذافيره وأهدابه دون مراعاة لشروط التكليف من استطاعة وتحقق وجوب ودخول وقت وحصول مصلحة واندفاع مفسدة فقد سلك دربا غير مرضي في تحقيق طاعة الله تبارك وتعالى وإقامة الشرع . إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في وسعه أن يطيح بالأصنام الثلاثمائة التي كانت معلقة حول الكعبة ، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد انتظر أكثر من عشرين سنة يحطم أصنام الهوى في القلوب حتى إذا ما جاء الميعاد وحطم أصنام الكعبة قرت العيون ورضيت النفوس ولم تشمئز . وفي ذلك بوب البخاري رحمه الله في الصحيح فقال : باب : من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه . وأورد حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، لولا قومك حديثٌ عهدُهم – قال ابن الزبير : بكفر – لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين : باب يدخل الناس وباب يخرجون ) . قال ابن حجر في الفتح ( 1/271) : ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه ، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما . وهذا الذي ذكرناه أصل يجب أن نستحضره في موضوعنا مع اعتبار الثوابت التي تأخذ حكما أكثر أصالة ورسوخا ، والمعنى أن الأصل عدم تغيير المنكر إذا خيف الوقوع في ما هو أنكر ، إلا إذا كان المنكر هو الشرك نفسه فيجب الإنكار بأي حال لأنه ليس بعد الشرك والكفر منكر أعظم منه ، وهذا هو المقصود بالثوابت . ومما ينبغي ملاحظته أن دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن ينتقل من الأداء الفردي إلى الحشد الجماعي الهادر ، كما يجب أن تتكثف الجهود الدعوية لتعميم قضية النهي عن المنكر خاصة ، وتطعيم الخطاب الدعوي بعناوين بارزة حول هذا الصدد بحيث يكون عاملا في توجيه دفة اهتمام الناس إلى هذه الفريضة الغائبة . لم يعد من المجدي أن يمارس الدعاة النهي عن المنكر بعيدا عن تأييد كل قطاع الصحوة بل المجتمع ، أو بعيدا عن التعاطف الإيجابي الذي يشعر به الناهي عن المنكر أنه ينافح عن كيان مجتمعه الذي يقف من ورائه مؤيدا وناصرا . وليس التأييد والنصرة صورة في ذهن أحد منا يجب أن تتحقق ، فليس التأييد مثلا أن تتمدح وسائل الإعلام جهود الدعاة في محاربة المنكرات ، أو أن ينتظر الدعاة من علماء السلطة فتوى تؤيد أعمالهم وتحركاتهم ، أو أن يقوم المسلمون بمظاهرات هادرة معلنة تأييدها للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر . ولكن المقصود بالتأييد أن يصل الدعاة إلى مستوى يقتنع الناس فيه بوجاهة ما يفعلونه وأن تصرفاتهم موزونة وتمثل مصالح الأمة ومنافع المجتمع ، وأن تتجاوب الشرائح المهمة في المجتمع كالمثقفين والطلبة والعلماء ورموز المجتمع مع تحركات الدعاة في هذه الصدد . وكما ذكرت : فإنه ليس من الضروري أن يكون هذا التجاوب صريحا واضحا ، فقد يسكت المجتمع ويسود الصمت قطاع المعترضين فيفهم الحصيف أن تصرفات الدعاة لم يستطع أحد أن يتناولها بقدح لأنه إما أن يكون مقتنعا بها أو خائفا من مواجهة الناس بإنكارها فيخسر هو تعاطفهم وجماهيريته بينهم . وسأضرب مثالا واقعيا حول إنكار المنكرات العامة العظيمة في المجتمع يثبت هذا المعنى : ففي بداية التسعينيات من القرن الميلادي الحالي انبرى مجموعة من الدعاة وأصحاب الغيرة على حرمات الله تبارك وتعالى من أعيان المجتمع لمحاربة حملة الإلحاد والعلمنة والإباحية التي استشرت في المجتمع المصري ، فأعياهم البحث عن وسيلة يناهضون بها شياطين الإنس المجندين لتنفيذ مآرب قوى الشر ، فوجدوا أن أقوم سبيل لضمان تأييد الرأي العام أن تواجه تلك المنكرات عبر القنوات المعتبرة في الدولة ، فقرروا مخاصمة أصحاب تلك المنكرات إلى المحاكم وإعمال كل نصوص القانون الوضعي التي يحتمل منطوقها ومفهوها تجريم تلك المنكرات . وبدأ أولئك الغيورون في رفع القضايا على رموز الانحلال والعلمنة المجاهرين بفجورهم وكفرهم ، وتم رفع قضايا على بعض الممثلين والممثلات الذين اعتادوا تقديم مشاهد مخلة في أفلامهم وعلى صور الإعلانات المعلقة في الشوارع والطرقات ، وخوصم بعض رموز العلمنة في الجامعات المصرية الذين ما فتئوا يصرحون بضرورة هدم الموروثات الدينية التي يقوم عليها الأمن الاجتماعي مثل إنكار العقائد المسلمة أو بعض النصوص القطعية . ومن أروع الأمثلة التي طرب لها قلب كل غيور وشفى الله به صدور قوم مؤمنين : القضية التي تم على أساسها طلب التفريق بين أستاذ جامعي وزوجته لإتيانه في كتاباته التي يدرسها أقوالا نص العلماء في كل المذاهب على عدها ردة يستتاب قائلها وإلا قتل . وقد حكمت المحكمة الابتدائية برفض الدعوى لرفعها من غير ذي صفة ، فلم ييأس المجاهدون وأعادوا رفعها في الاستئناف فحكمت لصالحهم ، وأمرت بالتفريق بين الأستاذ الجامعي وزوجته ( وهي أستاذه جامعية أيضا ) ، فعاند أولئك الخصوم وأعادوا رفع القضية في محكمة النقض التي تتسم أحكامها بمهابة وتوصف بأنها نهائية لا يجوز معارضتها ، وكانت القاصمة حين حكمت محكمة النقض بتأييد حكم الاستئناف والأمر بالتفريق بين الزوجين ، ولكن الزوجين كانا قد أعدا عدتهما وسافرا إلى بلد أوروبي لاجئين لائذين بديار المشركين مستجيرين ، فأخسر بها من سفرة يبيع فيها المرء دينه بعرض من الدنيا قليل . وعند متابعتي للصحف والمجلات وتحليل الأخبار التي تناولت الموضوع وجدت ما يلي : - كانت الجرائد الرسمية تتناول القضية بشيء من الحياد ، وترغب في عدم إظهار التعاطف مع ذلك العلماني – مع أن تلك الجرائد علمانية في نحلتها – وذلك خوفا من الوقوع تحت طائلة الاعتراض على أحكام القضاء أو التأثير في مجريات القضية . - معظم الجرائد التي هاجمت كتيبة المجاهدين كانت محدودة التأثير وكانت معروفة بانتحالها لكل ما يناقض الدين ، فلم يستغرب الناس قيامها بتلك الحملة ، ولكنها ( الحملة ) مع ذلك لم تدم طويلا ، إذا ما أن صدر حكم النقض حتى لاذت تلك الصحف بالصمت المطبق . - سكوت كثير من كبار الكتاب والصحفيين عن التعليق على هذه القضية لأنهم خافوا أن يخسروا بين الناس صفة انتمائهم للدين ، إذا ظهر في هذه القضية أن ذلك الأستاذ الجامعي كان ينافح عن كفر بواح وأن المؤيدين له كانوا يدافعون عن حق كل إنسان في الكفر بما شاء وكيف شاء . - صرح كثير من الكتاب العلمانيين بقلقهم من هذا الحكم القضائي ( الذي وصفوه بأنه أخطر حكم في تاريخ القضاء المصري ) وأن منهم من صار يحتاط في كلامهم وكتاباتهم خشية أن ينالهم حكم من هذه الأحكام . وبغض النظر عن الغبار الذي أثاره العلمانيون على هذه القضية فإن الحملة لا شك قد آتت أكلها ، وحصل المقصود بإنهاء المنكر وتهديد أصحاب المنكرات بلحوق الضرر بهم إذا ما حاولوا تكرار ذلك المنكر . من هذا المثال أيها القارئ : لعلك لاحظت مظهرا وددت أن أؤكد عليه ، وهو أن إنكار المنكر يحتاج في هذا الزمان إلى الكيد لأعداء الله بنفس ما يكيدون للإسلام ، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحرب خُدَعَة ) . وتلاحظ أيضا أن وسيلة الإنكار لا يجوز أن تنحصر في الإنكار باليد أو بتكسير رأس أصحاب المنكرات ، فأي نصر أعظم من أن ولّى ذلك العلماني هاربا من البلاد ولم يعقب . وقد رأينا كيف أن القضاء العلماني الوضعي أمكن إخضاعه لمصلحة الإسلام والمسلمين ، فكيف لو تخاصمنا إلى ضمير المجتمع المسلم النقي ، وإلى تقاليده وموروثاته ، إننا لن نعدم بين المجتمعات المسلمة حسا إيمانيا عاليا يؤيد كل حملة نقودها ضد المنكرات ، ولكننا يجب أن نفكر مليا في الطريقة التي نستفز بها هذا الحس الإيماني ليعبر عن غضبته . لقد بعث بعض الشباب الغيورين برسالة إلى إحدى الصحف يستنهض فيها غيرة علماء الدين للذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث دأب أستاذ الأدب في الجامعة الأمريكية على تناول النبي صلى الله عليه وسلم بالقدح في كتابه الذي يدرسه للطلبة . فثار المجتمع مستنكرا مطالبا بوقف هذه الحملة الكفرية المسعورة ضد رموز الأمة ، وخطب كثير من خطباء مساجد الأوقاف ذامين الموقف السلبي تجاه هذا الشأن الجلل . وآخر شاهد فيلما أجنبيا يقدح في الذات الإلهية ، فبعث إلى إحدى الصحف واسعة الانتشار يستنكر سكوت الرقابة على تمرير هذا الفيلم . فتأمل كيف أن عامة الناس على استعداد للتعبير عن غضبتهم إزاء التجاوزات التي تمس صلب المسلمات التي نشأوا عليها . إن هذا الرجل لم ينكر على نفسه أو على مجتمعه وجود دور عرض تعرض الأفلام الأجنبية التي لا بد وأن تحوي مشاهد لا يقرها الشرع المطهر ، وذلك لجهله وعمايته وغفلته عن هذه الأحكام ، ولكنه فيما يعلم ويعتقد كان إيجابيا لدرجة بعيدة المدى . إن فن إثارة الرأي العام مسلك يستخدمه أعداؤنا بالباطل ، فلماذا لا نستخدمه بالحق ، وإذا كانوا يدغدغون عواطف الناس ببعض المسلسلات والتمثيليات والأفلام مستغلين انكباب الناس على الشهوات فلماذا لا نستغل نوازع الإيمان والخير في قلوب المجتمع لتكون حربا على أعدائهم الحقيقـيين . هذا هو لب الموضوع في بحثنا ، إننا يجب أن نفكر كيف ننكر المنكر قبل أن نقرر أن ننكره ، ويجب أن نخطط لذلك وبأناة وإتقان قبل أن نبادر إلى اتخاذ خطوات عقيمة نخسر من ورائها نقاطا كثيرة من سمعة الدعوة ووجاهتها بين الناس . ولا بد أن يكون في الحسبان أن الدعاة يعملون في مجتمع ملوث بعقائد فاسدة وأفكار منحرفة ، وأن أفراد هذا المجتمع مجروفون بشهواتهم وغرائزهم إلى اتجاهات لا تلتقي مع ما يدعو إليه الدعاة في الغالب ، بل قد تصطدم تلك الشهوات مع الدعوة في كثير من الأحوال . ولا بد أن يكون مُستحضرا أيضا أن هذا الفساد الذي نعالج بتره قد بدأ ينهش في نسيج الأمة منذ قرنين من الزمان ، وأنه سرى حتى بلغ النخاع ، لا جرم يحتاج إلى وقت مديد لاستئصاله واستخراج مادته . وعليه : فإن الأناة في مواجهة الباطل والتريث في الإعداد له مسلك رشيد لنصرة الحق ، وليس جبنا أو خنوعا أو ذلة . أما المنكرات الصغيرة المتكررة التي نواجهها كل يوم فتحتاج أيضا إلى فلسفة جديدة – إن جاز التعبير – في التغيير وفي آلياته . فالواجب على كل مسلم أن يتفانى – قبل كل شيء – في محاربة المنكر أينما كان ، وبعد ذلك فإنه يجب أن يتخذ العدة والعتاد لمجاهدة الباطل ، وقد ذم الله تبارك وتعالى طائفة متخاذلة عن نصرة الحق ، فقال تعالى : والإعداد لإنكار المنكر دليل على جدية المحتسب في قيامه بهذا الفرض ، وعلى رغبته في تحقيق ثمرة مرجوة من الإنكار ، وليس الإنكار لمجرد الإنكار . فمن العدة اللازمة : العلم الواجب توافره للإنكار ، فقد يكون مرتكب المنكر جاهلا يحتاج إلى التعليم والتفهيم ، وقد يواجه المحتسب أقواما يجادلونه في كون المنكر مختلفا فيه فلا يسوغ الإنكار فيما هو بصدده مثلا . وهذا كله يتطلب عدة علمية تؤهل المحتسب للقيام بواجبه . ومن العدة التي يجب أن يتخذها المحتسب اختيار الوقت المناسب للإنكار ، وتقدير المصلحة والمفسدة المترتبة ، إلا في المواقف التي تتطلب إعلاما وبيانا وقت الحاجة فلا يجوز التأخير حتى لو لم تترتب مصلحة ظاهرة من الإنكار ، فالمصلحة المتحققة قيام الحجة في حق الجاهلين . ومن العدة التي يجب أن يتخذها المحتسب أيضا قلب عامر باليقين والثقة بالله تبارك وتعالى ، ولسان رطب بذكره عز وجل ، واستخدام الكلمات اللينة عند بداية الإنكار والرفق بصاحب المنكر وإنزال الناس منازلهم وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم . وأهم ما يجب أن يراعيه المحتسب أن يكسب تعاطف الناس من حوله قبل إنكار المنكر ، وذلك باستنفار المشاعر الإيمانية في الحال ، وإظهار المنكر في أشنع صورة ، بحيث يحصل الإجماع من الموجودين على استقباحه واستهجانه ، ثم يبدأ بعد ذلك في بيان عقوبة الله تبارك وتعالى والتخويف من سطوته وانتقامه ، ولا ينبغي أن يقصر في بيان البديل الذي جعله الشرع لهذا المنكر ، ورسم صورة واضحة لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم والمؤمن من توقير حرمات الله وتعظيم شعائره . وسأقترح هنا حوارا في كيفية تغيير المنكر بإمكان كل مسلم أن يقيس عليه حالته التي يتعرض لها : يركب محمد سيارة الأجرة الجماعية ( ميكروباس ) . محمد : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . الركاب : البعض يرد السلام والآخر منشغل في سماع الأغنية الصاخبة الشهيرة التي أدار سائق السيارة التسجيل بها . محمد : لو سمحت وتكرمت يا أخي الكريم ، أرجو أن تغلق هذه الأغنية ، جزاك الله خيرا . الركاب والسائق : في وجوم . سائق : ( وقد يكون أي راكب ) : حاضر يا عم الشيخ . ( وتمضي السيارة ولا يغلق التسجيـل ) . محمد في إلحاح : لو تكرمت يا أخي أغلق هذا التسجيل ، أما تعرف أن سماع الأغاني والموسيقى حرام . السائق ( يلتفت مذهولا ) : ماذا تقول ؟ لما ذا تعقد الأمور يا عم الشيخ ، أنا لم أزن أو أشرب الخمر ، فماذا في سماع أغنية بريئة ؟! محمد : أنا أعرف يا أخي أنك لم تزن ولم تشرب الخمر وأنك تصلي وتصوم ، ولكن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبر بهذا حيث قال : ( ليأتين على أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ) . وقد أجمعت المذاهب الأربعة على تحريم الأغاني والموسيقى . أحد الركاب : لا تبالغ يا عم الشيخ فقد رأيت الشيخ فلان الفلاني ( مشهور طبعا ) يسمع أغاني الست . محمد : يا أخي إذا سألك الله يوم القيامة : سمعت حديث رسولي في تحريم الغناء ولم تنته هل ستقول لأنني رأيت الشيخ فلان الفلاني يسمع الأغاني ؟! أيها الاخوة إن سماع الأغاني داء يجب أن نتخلص منه ، إنه ينبت النفاق في القلب كما قال الصحابي عبد الله بن مسعود ، ثم إنه مزمار الشيطان وقرآنه ، وما سكن الغناء في قلب امرئ إلا وطرد منه كلام الرحمن ، فمن منا يسمع إلى القرآن ويستمتع به كما يستمتع بسماع الأغاني ؟ إن القرآن هو غذاء الروح وليست الموسيقى والأغاني . أحد الركاب : ساعة لقلبك وساعة لربك يا عم الشيخ ! محمد : لا يا أخي هذا العبارة ليست صحيحة ، فأنت كُلُّكَ لله ، أنت مخلوق لله وليس لنفسك ، وربك الذي تعبده وتصلي له وتحبه يقول لك : أحد الركاب : كلام عم الشيخ صحيح . أغلق هذه الأغنية وسمعنا القرآن يا أسطا . راكب آخر : انتظر ، لا تغلق التسجيل ، لماذا تريد أن تفرض رأيك على الجميع يا عم الشيخ ، أنتم هكذا أيها المتزمتون ، متسلطون وديكتاتوريون . محمد ( وهو يبتسم ) : يا أخي أنا لم أفرض رأيي ، أنا قلت للسائق لو سمحت وتكرمت ، ولو رفض في النهاية أن يغلق التسجيل كنت سأضطر للنـزول من السيارة . ثم إن النصيحة بمقتضى شرع الله عز وجل ليست فرضا للرأي ، بل مصلحة عامة لكل الناس . السائق ( متحديا ) : طيب عندك شريط قرآن يا عم الشيخ ؟ محمد ( يمد يده مسرعا في جيب قميصه ) : نعم ، ولكن افرض أنه ليس معي شريط فيمكنك أن تفتح إذاعة القرآن الكريم ، وإلا فإغلاق التسجيل غنيمة على كل حال . أحد الركاب ( مقاطعا ) : صحيح يا عم الشيخ كنت ستنـزل لو لم يغلق السائق التسجيل ؟ محمد ( مبتسما وفي ثقة ) : نعم فإن المنكر إذا لم أستطع أن أزيله يجب أن أزول عنه . فقد تتعرض السيارة لحادث اصطدام – لا سمح الله – فنموت جميعا ونحن متلبسين بهذه المعصية ، ولست مستعدا أن ألقى الله وأنا عاص . الراكب يبتلع لعابه في وجل : حادث ! ولماذا تقول ذلك ؟ لماذا هذا التشاؤم ؟ محمد ( بنبرة حزن عميقة ) : يا أخي إن تذكر الموت ليس تشاؤما ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات ) وهو الموت . كما أن الذي ينسى الموت ويتناساه يصاب بالغفلة وتكثر منه المعاصي ، ثم إن الموت حق كما نعلم ، ما منه مفر ومهرب . تمر السيارة على حادث اصطدام يموت فيه السائق ويرى الركاب ذلك الميت والناس يخرجونه من السيارة المحطمة . محمد ( منتهزا الفرصة ) : هل رأيتم ؟ ترى ما ذا كان يسمع هذا السائق قبل أن يموت ؟ لو كان يسمع القرآن فهنيئا له بهذه الموتة ، وإن كان يسمع الغناء ويدندن مع الموسيقى فقد مات على معصية وختم الله له بشر ، ونسأل الله السلامة . في هدوء يمد السائق يده إلى التسجيل ويفتح شريط القرآن ، فينطلق صوت الحصري تاليا قول الله تعالى : { إننا نمر يوميا بالعديد من هذه المواقف التي تحتاج إلى حنكة وبدهية في التصرف وتقدير الموقف وإعطاؤه ما يناسبه من الكلام . وقد ضربت المثل بهذه القصة لأفترض أن إنكار المنكر قد يكون بالأمر بالمعروف ، وقد يكون بالكتيب الأنيق وبالهدية المرققة للقلوب . إن الداعية حاذق في التصرف ، يدرس شخصية من أمامه ويعاملها بما أوتي من فراسة وتوسم ، ليس بالغضوب الألد الخصم ، بل شعاره اللين ، وقد أمر الله عز وجل موسى أن ينكر على فرعون باللين فقال تعالى : إن الغلظة لا تناسب إلا أهلها ومن يستحقها من صناديد الكفر والنفاق . بل إن القرآن لم يأمر بالغلظة في موضع إلا مع الكفار والمنافقين حال مجاهدتهم ومحاربتهم ، قال تعالى : ومع ذلك فقد أمر الله تعالى بعدم انتهاج هذه الغلظة في مطرد الأحوال حتى مع الكفار ، قال تعالى : وبعد أيها الداعية الأريب .. إن النهي عن المنكر يأخذ وسائل أخرى كثيرة ، مثل إرسال الخطابات ، وإهداء الأشرطة الصوتية التي تتناول المنكر المراد تغييره ، أو زيارة ودية يتم مناصحة صاحب المنكر فيها برفق ولين ، أو مكالمة هاتفية يتم تفهيمه فيها ضرورة الانتهاء عن ذلك المنكر ، أو حث من يحترمه صاحب المنكر على القيام بدور في نصيحته وزجره .
إن الحركة الإسلامية قد اتهمت بأنها نخبوية تنتقي الصفوة لتوجه إليهم الخطاب الديني ، بينما لا تبذل مجهودا يذكر في إيصال أنموذج الحق ناصعا إلى العامة . ولو استثنينا جماعة التبليغ من هذا الاتهام فإنه سيكون ذا وجاهة وإصابة ، بيد أن مفهوم الخطاب الجماهيري أوسع في الدلالة من مجرد دعوة الطبقات الدنيا من الناس أو ارتياد المقاهي والبيوتات على نحو ما تصنع جماعة التبليغ ( مشكورة في ذلك ولا ريب ) . إن الصدع بالحق يقتضي أن يتوجه الخطاب الإلهي إلى الكافة أينما حل الداعية أو ارتحل ، بلسان الحال أو المقال . وقد ذكرت لنا كتب السيرة نشاط النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمر بالجهر بالدعوة في قوله تعالى : وقد يأتي على الحركة الإسلامية زمان سيكون خطاب الجماهير هو النشاط الوحيد الذي يستطيع ممارسته الداعية ، إذ لن يلاحق إذا زار جارا له ، ولن يوقف إن هو كلم جليسه في وسيلة المواصلات أو أدار حديثا قصيرا مع بائع يتعامل معه أو الحلاق الذي يزين له شعره أو مع الطبيب أو السباك .. وقد سمعت عن بعض الناشطين في الدعوة ممن صاروا يلقون بالموعظة بين ظهراني الناس غير آبهين أن استجاب لهم الخلق أم لم يستجيبوا . وسمعت عن داعية إذا رأى متبرجة قال لها : أختاه الحجاب فريضة ، ثم يولي مدبرا ولا يعقب ، وهذا لعمري أرجى في براءة الذمة للداعية . أن سمة الخطاب الجماهيري أنه سهل ميسور مفهوم كمثل نذارة الرسل لأقوامهم ، ما فتئوا يكررون لهم : وينبغي كذلك أن يكون خطاب الدعوة الإسلامية بكل فصائلها : سهلا مختصرا ، فإنه أدعى للحفظ والاستقرار في الوجدان . ولقد استطاعت بعض الفلسفات الأرضية والأفكار المنحرفة أن تطرح شعارات مختصرة تعبر عن أيديوليجياتها وانتماءاتها ، وأن تجمع الناس حول هذه الشعارات فغدت كأنها حكر عليها ووقف من أوقافها ، فتأمل كيف أصبح شعار ( الحرية والعدل والمساواة ) من شعارات الثورة الفرنسية التي عرفت بها منذ قامت حتى زعم الزاعمون أنها أم الثورات التحررية وزعيمة الحركات التي نادت بالعدل والمساواة . وما نحن بصدده هنا : هو كيفية توسيع مستوى الخطاب الجماهيري لدى الخطاب الدعوي بعامة ، بحيث تستطيع الدعوات أن تحتل أكبر مساحة ممكنة من المواقع . فالملاحظ أن مفردات الخطاب الدعوي لدى بعض الحركات الإسلامية تنحو جانبا تخصصيا زائدا عن المطلوب ، حتى في صعيد الخطاب الجماهيري الذي يتطلب نزولا في المستوى إلى أفهام العامة حتى لا تنشأ حواجز نفسية مع مرور الزمن بين الجماهير وبين تلك الحركات الإسلامية . ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم الدعاة هذا الأصل ، ونبههم إلى ضرورة الحذر عند التحدث مع العامة ، ولعمري إن الحديث إلى عامة الناس لا يقل أهمية في ضرورة الاستعداد وانتقاء الألفاظ عن الحديث إلى المتخصصين والمتبحرين . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( خاطبوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ) . رواه البخاري في صحيحه . وقال عبد الله بن مسعود : ( ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . رواه مسلم . ويعلم من ذلك أن الداعية يجب أن يتجافى عن كثير من الموضوعات التي قد يظنها مهمة ، ولكن مقتضيات الواقع تفرض عليه التريث في مواجهة الجماهير تلك الموضوعات لما قد يترتب على ذلك من المفاسد الشرعية المعتبرة أو تأخر المصلحة الأولوية . ولا شك أن خطاب الجماهير ينبغي أن يخضع لسياسة إعلامية سنتحدث عنها في الجهد الإعلامي ( الطريقة الخامسة عشرة ) ، ونود هنا أن نؤصل للخطاب الجماهيري الذي نريده أن يكون حسا دعويا لكل داعية ، فهو يلاحظ أثناء دعوته أن المراد تجييش الأمة نحو أهداف معينة ، وتوحيد الطرح الذي يتكثف حوله الاهتمام الشعبي بما يصب في تعميق الانتماء الديني لدى الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمع . إن الجماهيرية تعني أن يتبنى عامة الناس قضايا الدين ، وتتوجه جهود البسطاء نحو خدمة مصالح الإسلام والمسلمين ، وتترفع همم الأفراد العاديين عن دنايا الاهتمامات الأرضية التي تعودوا عليها في الحياة الجاهلية ، لتكون لهم اهتمامات تتسق وأمانة المسئولية التي يتحملونها مع الدعاة . إن مخاطبة الجماهير عبر ملاحظة هذا المنحنى يتطلب أن نركز على أمرين : الأول : ميادين الخطاب الجماهيري . الثاني : أساليب الخطاب الجماهيري . أما الأول : فالمقصود به أن يحرص الدعاة على الاعتناء بالتجمعات التي يتكثف حضور الناس فيها ، ليس في أزمنة العبادات والأعياد الشرعية فحسب ، كصلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الكسوف ، ولكن ينبغي أن يتجاوز الاهتمام إلى غزو الناس في منتدياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومواجهة الباطل في عقر داره ، ومقارعة الجاهلية في عرينها . ليس يجدي في الخطاب الجماهيري أن ننتظر مجيء الناس إلينا ، ونترقب جلوسهم منصتين أمامنا ، بل يجب أن نجأر بالحق بين ظهرانيهم عاليا مدويا ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حين صعد على الصفا وأعلن أنه النذير بين يدي عذاب شديد ، وكما خرج إلى وفود الحجيج يسمعهم كلام الله ، وكما خرج إلى الطائف يستنصر وجهاء القوم للقيام بدين الله . إن المجتمعات تموج بتحركات مختلفة التوجه ، ويتكثف الحضور الجماهيري حول تلك التحركات ، فمنها النوادي والدورات الرياضية ، والنقابات المهنية ، والندوات الأدبية والسياسية ونحوها ، والمؤتمرات العلمية المختلفة ، وعلى مستوى أجهزة الإعلام الجماهيرية ( ولها حديث خـاص ) ، ينبغي أن يتكثف الحضور الدعوي ، مستخدما كل السبل في التوغل إلى سويداء تلك المنتديات والتجمعات المختلفة . إننا نريد أن تصل كلمة الحق الناصعة إلى أسماع الناس ، أن تصل وحسب ، وما يضرنا بعد ذلك أن لبى نداءها الناسُ أو أعرضوا ، نصروا أو خذلوا . أما الأمر الثاني : أساليب الخطاب الجماهيري : فالمقصود به اعتماد الآليات الفنية لتحقيق هذا الخطاب الجماهيري ، بحيث نرقى بتحرك الدعاة نحو هذه الجماهيرية بخطىً علمية مدروسة ، ولا نترك فرصة لمجهوداتنا أن تتسم بطابع رد الفعل ، وترقب ما يحتاجه الناس لنوافيهم به ، بل يجب أن يكون زمام المبادرة بأيدي الدعاة ، فمقاليد القيادة الجماهيرية بحق يجب أن تكون في أيدي قادة الصحوة الإسلامية المباركة ، لا في أيدي القوى السياسية التي تملي على الدعاة وتقرر لهم ما يجوز مخاطبة الناس به وما لا يجوز . ويمكننا أن نلخص هذه الآلية في النقاط الآتية : (1) حصر التجمعات التي يتكثف فيها حضور الناس وترتيب تواجد الدعاة فيها بما لا يتعارض مع أنظمة تلك التجمعات ، كالنقابات والنوادي الرياضية والأفراح التي تلتزم بالشرع المطهـر . (2) تنظيم جداول الخطب والدروس والمواعظ في المساجد بتوسع أفقي ، حتى يصل الخطاب الدعوي إلى أبعد بقعة ممكنة . (3) ترتيب العمل الدعوي في الجامعات والمدارس عبر التلاميذ والطلبة الملتزمين ، وتنشيط جهودهم الدعوية عبر تدريبهم على فنون إلقاء الخطب والكلمات في المدرجات وتنظيم الندوات وتنسيق المعارض الثقافية وتصميم مجلات الحائط . (4) حث العناصر المتدينة من الموظفين على بذل المجهود الدعوي في المصالح الحكومية والشركات والهيئات ، وتكثيف المظاهر الدينية في تلك المواقع مثل إقامة شعائر صلاة الجماعة ، والدعوة إلى حجاب المرأة المسلمة ، وترتيب المعارض التجارية التي تبيع بالأجل كبديل عن طريقة البيع بالقرض الربوي . (5) الاهتمام بالكتيب الشعبي الذي يطبع بكميات كبيرة ويوزع بالمجان ، بحيث يتناول قضايا الدين المهمة ، ويخاطب وجدان المجتمع ، ويوجهه نحو الالتزام بشرع الله تبارك وتعالى . (6) الاهتمام بدور الشريط الصوتي الذي أثبت تأثيره البالغ في كل أوساط المجتمع ، مع ضرورة الاهتمام بالإخراج الصوتي والتوسع في التسويق التجاري والتوزيع المجاني . (7) توزيع أرقام هواتف العلماء والدعاة وشيوخ الصحوة ( المتفرغ لهذا الدور منهم ) ، وحث أفراد المجتمع على الرجوع إليهم في قضايا العصر ومسائل الفتوى . (8) ضرورة أن تتناول مصنفات الدعاة ومقالاتهم - في الصحف والمجلات – مشكلات المجتمع وقضاياه محل الاهتمام ، وألا يغيب الدعاة عنها بزعم التركيز على قضايا الدين الأكثر أهمية ، فإن إشعار الناس بعدم غياب الدعاة عن قضايا المجتمع له دور في توثيق مرجعيتهم لدى كل شرائح المجتمع . (9) الاهتمام بالأنشطة الدعوية المختلفة التي لها دور في تعميق انتماء المجتمع لدينه ، مثل مسابقات القرآن الكريم والمسابقات الدينية في المواسم كشهر رمضان والأعياد ، وعلى نفس الصعيد أن تتبنى الحركة الإسلامية قضايا الأمة وتدعو الناس إلى المشاركة في تحمل مسئولية حمل أمانة الدين ، فإن ذلك يورث شعورا تلقائيا لدى الكافة أن الحركات الإسلامية تمثل الدين والأمة . (10) أما بالنسبة لمفردات الخطاب الديني فيجب أن تتعاون الحركات على تأصيل الأولويات التي تضعها في الخطاب الدعوي ، وعلى أقل تقدير أن تجتمع على القاسم المشترك الذي يجمع بينها ، وأن يسود التفاهم في نقاط الاختلاف بشرط عدم الاصطدام مع الثوابت والمسلمات . كما ينبغي أن يتفق الدعاة على تبسيط الخطاب الدعوي ، وتيسير وصوله إلى كل شرائح المجتمع ، ونبذ النخبوية والانتقائية المطلقة في توجيه الخطاب الدعوي . فمن أمارات الدعوة الحقة أن كل شرائح المجتمع تنتمي إليها وتتبنى صدى خطابها وتنافح عن رموزها ونستجيب لنداءات أقطابهـا .
ستظل الخطبة والدرس في المسجد يحتلان الموقع الرائد في سلسلة أساليب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى . وسيستمر تعظيم الناس لهاتين الشعيرتين باعتبارهما مظهرا تقليديا نشأت الأمة جمعاء على التأثر به والتجاوب معه . وما من مجتمع مسلم إلا وينظر إلى هذين الأمرين ( الخطبة والدرس ) نظرة تختلف عن نظرته لمظاهر الدعوة الأخرى ، فأضحت الخطبة والدرس لذلك من أيسر الوسائل وأكثرها تأثيرا على شرائح المجتمع المختلفة . وإذ ننكر على من يريد قصر مفهوم الدعوة على الخطبة والدرس فلا يعني ذلك أننا نستقل من شأنهما أو نهون من خطرهما ، فالمقطوع به أنه ما من وسيلة يضمن الدعاة حشد الناس بها ويضمنون تواجد كل الشرائح من غني وفقير وعالم وجاهل وصغير وكبير كما يضمنون استماع كل أولئك للخطاب الدعوي مثل الخطبة أو الدرس ، ومن المقطوع به أيضا أنه ما من وسيلة نضمن بها تنشئة الأجيال في جو مقدس ومحيط طاهر مثل الخطبة والدرس حيث يرتع الحاضرون في رياض الجنة ويجوبون بأرواحهم في بساتين الذكر الفياحة فتطهر قلوبهم وتزكو نفوسهم وتتعطر أرواحهم بأريج الجو الإيماني الذي يحيط بهم من كل صوب . وإذا كان ذلك كذلك فلا بد أن يعمل الدعاة على استغلال هذه الوسيلة بما يحقق المقصود وينتج الثمرة المرجوة ، فلا يليق أن نرى الجموع الغفيرة تأتي إلى المساجد طوعا أو كرها ثم تكون خطبنا عامل هدم وتنفير لتلك الجموع . الخطبة موصوفة في القرآن بالذكر ، وقد أجمع أهل العلم أنها مشروعة للتذكير بالله تبارك وتعالى وبقضايا الدين المهمة ، وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم موصوفة بالقصر مع طول الصلاة ( أي صلاة الجمعة ) ، وأن هذا المسلك هو من فقه الإمام ودرايته بما ينفع ويفيد . إن هذه الصفات يجب أن تراعى من الدعاة التزاما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، واعترافا بأن الحيدة عنها ضار غير نافع ، وليس من الفقه والعلم بالدين . فليس من المناسب أن يخطب بعض الدعاة في ساعتين أو أكثر ، كما أنه ليس من المناسب بعد ذلك أن يقصر الصلاة فكأنه يتعمد مخالفة السنة ، مع أن الدعاة أحق الناس باتباع السنة . وليس من المناسب أن تكرس الخطبة للكلام في موضوعات لا تمت للتذكير بِصلة ، كأن يخطب الدعاة في الأمور الخلافية ، ويسخرون خطب الجمعة للرد على بعضهم البعض ، أو نحو ذلك من المسالك التي تنال من مصداقية الدين قبل أن تنال مصداقية الدعاة أنفسهم . فليس على الدعاة من بأس أن يقصروا الخطبة في حدود النصف ساعة ولا يزيدون عن الساعة بحال ، وإذا أرادوا بسط الكلام في قضية تحتاج إلى تطويل أن يكون ذلك بعد الصلاة وبشريطة ألا يتخذ عادة وسنة ، وإلا قد يدخل الاعتياد على هذا المهيع في باب الابتداع . أما موضوعات الخطبة فيجب أن تدور حول أساسيات الدين ، وأقول مؤكدا ( تدور ) وليس المعنى أن ترتكز على الأساسيات ولا تزحزح عنها ، فقد يحتاج الدعاة إلى التذكير ببعض القضايا الملحة التي ليست من ضروريات الدين ولكنها ذات خطر وشأن في الحالة الراهنة . والأفضل أن يدور فلك الخطبة حول موضوع واحد ، متحاشيا – الخطيب – أن تكون خطبته من النوع الهلامي الذي لا يمكن الإمساك بمضمونه أو التعبير عن عنوانه . وتوحيد الموضوع في الخطبة الواحدة يفيد المستمع في تركيز الاستفادة من عناصر الخطبة فيخرج بفائدة متحققة ، بخلاف ما لو استمع إلى موضوعات متعددة واستمتع بهذه النـزهة العلمية ولكنه في ذات الوقت لا يستطيع أن يختزل فوائد الخطبة في عناصر محددة . وقد كنت أتعمد أن أسأل إخواني بعد استماعهم لأي خطبة أو درس عما استفادوه لأتبين طريقة انتفاع الناس من الخطبة أو الدرس ، فتبين لي أن معظم الناس تطربهم الخطب ذات القصص والحكايات ، ويتبرمون من الخطب العلمية الصماء التي لا تحرك القلوب ، وأن نسبة التركيز تكون في أعلى معدلاتها في بداية الخطبة أو في أوقات الذروة من الحماسة والإثارة ، وأن نسبة الذين تسرح عقولهم في مراعي الدنيا أو ينامون ليست بالقليلة ، وبخاصة عندما تكون الخطبة مشجعة على هذا المسلك . هذه فوائد أضعها بين يدي الخطباء والدعاة ليقرروا لأنفسهم ولمستمعيهم النافع المفيد وينأوا عما يضعف من تأثير الخطبة على الناس . ولكننا – كدعاة – يجب ألا نتأثر بطريقة الناس في الاستماع ونكيف أنفسنا ودعوتنا وموضوعاتنا المهمة على نمط المستمعين وهواهم . وبئس الخطيب الذي يطربه صخب الدهماء إذا سمعوا قصة مؤثرة أو موعظة بليغة ، وبئس الخطيب الذي يبحث عما يثير الناس ليخطب به ، ويفتش عن نقاط التأثر عند الناس فيعمد لاستثارتها على الدوام وإن لم تكن مناسبة للمقام ، وقد قيل قديما : لكل مقام مقال . فمثل هذا الخطيب أو الداعية ستضمحل قضايا دعوته أمام شهوته في الضجيج والصخب وما يسمونه بالديماجوجية أي الهياج الجماهيري الفارغ . وقد اتعظ كثير من الخطباء والدعاة بهذا الأمر حين استبان لهم بعد دهر أن من كانوا يصيحون حولهم ويهيجون متأثرين بمواعظهم هم أول جمع يتفرق عنهم عند حلول المدلهمات . وينبغي أن يكون الخطيب أو المحاضر مرتبا منظما في خطبته ، ينتقل من المقدمة إلى الموضوع فالخاتمة في سلاسة ونظام ، وإذا تحدث في الموضوع ينتقل من فكرة إلى نتيجتها ، ولا يقفز على التسلسل معتمدا على ذكاء المتلقي والمستمع ، فالخطيب المؤثر يفترض دوما أنه يخاطب أدون الناس علما وثقافة . كما ينبغي على الخطيب والمحاضر أن ينتقي الموضوعات بعناية ، بحيث يتوفر فيها عناصر الأهمية واحتياج الناس والواقعية والتأصيل الشرعي في التشخيص واقتراح العلاج . فالخطبة البتراء هي التي تهيم بالناس في أودية المشكلات والمخالفات الشرعية ثم تتركهم دون أن تقترح لهم العلاج الشرعي لما هم فيه . والخطبة المنقوصة هي التي يعيش ملقيها في أحلام الكرى بعيدا عن معترك الواقع الدامي الذي يموج فيه الناس ويحتاجون إلى من يقنن لهم حياتهم تلك على وفق شرع الله تبارك وتعالى . والخطبة القصماء ( نقيض العصماء ) هي التي يسخرها ملقيها لتصفية حسابات شخصية فيكون كأهل الكتاب الذي بدلوا كلام الله ليشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون . وينبغي على الخطيب أن يكون رشيقا مؤثرا في تحركاته على المنبر ، وأن تتوازى مستويات صوته مع مدى تأثير الكلام وقوته . وأن يتحاشى في تعبيرات قسماته ما يعده الناس عيبا أو مما لا يليق صدوره من الدعاة وأهل العلم كالغمز وإخراج الأصوات المنكرة من الفم والأنف . وكذا أن يتحاشى أي حركة معيبة في عرف الناس ، فكل ذلك من شأنه أن يجعل للخطبة رونقا وبهاء . ومن أقبح القبيح أن يكون دعاتنا ملحنين ، ليس من لحن الموسيقى بل لحن الكلام أي خطؤه وانحرافه عن الوزان العربي الفصيح . ومثله في القبح أن يخطب الدعاة بالعامية الهابطة ، معرضين عن اللسان العربي المبين ( لغة القرآن الكريم ) . كما أنه ليس من السوي أبدا أن يخرق آذان المستمعين فتح المجرور وجر المنصوب ونحوه مما يجعل الآذان تدمى عند سماع الخطبة . وليس من العسير على الخطباء والدعاة أن يتدارسوا بينهم علوم العربية كما يتدارسون العلوم الشرعية الأخرى ، مع اعتبار أن علوم العربية شرط أساس لفهم القرآن الكريم ، فضلا عن إفهامه الناس . كما أنه ليس من العسير أن يجول الداعية والخطيب ببصره بين الفينة والفينة في كتب الأدب والشعر ليصقل ملكته البيانية ، ويرقى بمستوى أدائه اللغوي ، فلو طالع العقد الفريد أو البيان والتبيين أو ديوان الحماسة أو المتنبي لكان له شأن في صياغة فصيح الكلام وبلوغ الرتبة الراقية في البلاغة والبيان . والداعية والخطيب لا يجوز أن يكون مغيبا عن مجتمعه هائما في كواكب الكون بعيدا عن أرض الواقع الذي يعيش فيه ، فيجب عليه أن يكون مطالعا للصحف السيارة ليباشر بنفسه معرفة الأخبار الجديدة ، والتي قد يكون لها أثر في الصعيد الدعوي ، أو يكون لها أثر على الشرائح التي يقوم بمباشرة علاج أمراضها وآفاتها . كما أن على الخطيب والمحاضر ألا يكون أحادي العطاء ، أي يخطب ويحاضر فقط ، ويستنكف أن يتكاسل عن حضور خطب الآخرين ومحاضراتهم ، فإن من ذلك من شأنه أن يحصره في مستوى واحد من الأداء والإفادة ، فإن من يستمع أكثر استفادة ممن يتكلم ، ومن يتكلم ولا يستمع فسيأتي عليه الوقت الذي يشعر فيه أنه لا يملك ما يتكلم به ، ولذلك نبه بعض الأذكياء أن للإنسان فم واحد وأذنان وعينان ، ليتكلم قليلا ويسمع كثيرا ويرى كثيرا ، والمراد بالسمع والنظر ما يكون وسيلة لحصول المعلومة في الفؤاد كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله : ويجب على الخطيب أن يعود نفسه على الارتجال ، أي بداهة الإلقاء ، وسرعة تحضير الموضوع ، ويكون ذلك بالدربة وكثرة القراءة والمطالعة ، والإكثار من محفوظات النصوص ، وبخاصة التي يمكن استعمالها في كل المواطن كالشواهد الشعرية والحكم العربية القديمة ، أما الآيات والأحاديث فلا ينبغي أن يحتاج الخطيب إلى من يوصيه بحفظها ، فهي رأس ماله وعدته وعتاده . أما الموضوعات المطروحة فلا بد أن تكون مناسبة لمستوى الحضور ، ومناسبة للزمان والمكان ، فلا يليق أن يخطب بين الناس في دقائق علم السلوك حال كون جمهور المستمعين ممن لا يصلون إلا الجمعة ، أو يحدثهم عن اللحية والنقاب بينما المسجد الذي يخطب فيه يؤمه العلمانيون الذي يرون حاكمية الشرع من أصله محل نظر . وكذا موضوعات المحاضرات يجب أن تلبي حاجات المجتمع ، وخاصة شبابه الذين هم أكثر رواد المساجد هذه الأيام – بحمد الله تعالى - ، فينبغي أن يبحث الداعية عن الموضوعات التي تهم الناس ويعدها إعدادا جيدا ويعرضها عرضا حسنا . وحبذا لو اجتمع الدعاة على عقد دورة تدريبية بين حين وحين ، ويفضل أن تكون هذه الدورة نصف سنوية ، يدعى إلى المحاضرة فيها كبار الخطباء والدعاة والمتخصصين في أساليب الإلقاء وفنون محادثة الناس ، بحيث نوفر للخطباء في مدة يسيرة مادة علمية تعتبر خلاصة تجارب المجربين وعصارة جهود المشتغلين في الحقل الدعوي عموما وفي حقل الخطابة خصوصا . ولا بد أن يكون في حسبان الدعاة ومسئولي النشاط الدعوي في أي منطقة أن يخرجوا للمساجد خطباء جددا ، يقومون بسد حاجة المساجد من الخطباء والدعاة ، فهذا من شأنه أن يوسع مساحة الدعوة ، ويقوي تجذرها في أنحاء المجتمع عبر توزع الدعاة على مختلف مساجد المناطق المختلفة . وفي الختام ألفت نظر الخطباء والدعاة إلى شيء مهم يجب أن يتنبهوا له – استفدته بالتجربة – ولم أجده مسطورا في الأسفار ، ألا وهو تفاعل الداعية مع ما يدعو إليه ، فإن كل إناء بما فيه ينضح ، والداعية الذي آلمه ترك المسلمين للصلاة سيستطيع أن يخطب خطبة مؤثرة في هذا الموضوع ، ومن تمزق فؤاده قلقا على مستقبل شباب المسلمين وما آل إليه حالهم سيستطيع أن يؤثر في كل من حوله ، ولو كانت كلماته يسيرة ومفرداته بسيطة . إنه الصدق الذي جعله الله علامة للتوفيق ، والإخلاص الذي يجب أن يكون شعار الداعية في كل ما يأتي وما يذر . وبدونهما ستجد الداعية بارد العواطف ، رَخِيَّ الأشجان ، بطيء التفاعل ، ومثله لا يصلح أن يرعى شئون المسلمين ويقوم بدور الإصلاح فيهم .
|